+ A
A -
أسوأ ما يمكن أن يؤذي التعاون الاقتصادي بين الدول، خلطه بالمصالح السياسية والأهواء الشخصية، إنها الوصفة المناسبة للفشل الذريع والتخلف، لذلك نجح الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ مساره، منذ عام 1951 وفشلت الجامعة العربية، التي تأسست قبله بسنوات (1945).
( اليورو) ليس تكتلا اقتصاديا صرفا، كما أنه ليس بعيدا عن السياسة، لكن سر نجاحه يكمن في عملية الفصل بين القضايا المتنوعة، فلم نسمع عن قضية سياسية اختلف عليها الأعضاء أدت إلى تعطيل مسارات العمل الاقتصادي.
الجامعة العربية ليست التكتل الوحيد الفاشل، فهناك أيضا مجلس التعاون الخليجي، ومنظمة التعاون الإسلامي، ولو سألت عن القاسم المشترك للفشل، فإنك ستجد العرب وعاطفتهم وأفقهم الضيق، وستجد السعودية تقود هذا الفشل دون عناء، فهي التي عملت بدأب منقطع النظير من أجل فرض سيطرتها على هذه التكتلات والمنظمات وحولتها إلى مطيّة لتنفيذ مصالحها، دون أدنى اعتبار لمصالح الآخرين.
آخر تلك الأمثلة المؤذية كانت منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» التي تأسست في سبتمبر 1960 بمبادرة من الدول الخمس الأساسية المنتجة للنفط، وهي السعودية وإيران والعراق والكويت وفنزويلا، وكان هدفها مواجهة شركات النفط العملاقة وتنظيم عمليات الإنتاج، حفاظا على مصالحها وثرواتها.
هذه المنظمة شهدت بالأمس مفاجأة، بإعلان دولة قطر الانسحاب منها بدءا من الأول من يناير المقبل، لأسباب موضوعية ومفهومة، أهمها التركيز على قطاع الغاز باعتباره هو القطاع الأهم بالنسبة لها، كما أوضح سعادة المهندس سعد بن شريده الكعبي، وزير الدولة لشؤون الطاقة، العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لقطر للبترول.
القرار القطري تاريخي بامتياز، وأحسب أنه دُرس بعناية فائقة، وهدفه تحول قطر إلى عضو مستقل في أسواق الطاقة، يعمل لمصلحة المنتجين والمستهلكين على حد سواء، دون أجندات ومصالح ضيقة من أي نوع، ولتحقيق ذلك كان لابد من التحرر من منظمة «مختطفة» خرجت عن مسارها وصارت دمية تحركها السعودية المثقلة بالمشكلات السياسية والجرائم ضد الإنسانية، والانتهاكات البشعة للحقوق والحريات وكرامة البشر، وحتى لو تغاضى المرء عن كل ذلك، واعتبره شأنا داخليا لدولة ديكتاتورية اختارت هذا السبيل، فإنه ليس بمقدوره التغاضي عن حقيقة أن السعودية صارت تُقحم كل ذلك في قلب المنظمات الإقليمية والدولية لاستجداء مواقف تغطي إخفاقاتها وتلبي مصالحها وحدها دون أدنى اعتبار للشركاء الآخرين، ومن ذلك منظمة أوبك التي قامت لحماية مصالح وثروات أعضائها، دون الإضرار بمصالح المستهلكين، على قاعدة العرض والطلب المقبولة من جميع الأطراف، ويبدو أن الرياض باتت تعتقد أن في مقدورها تحريك هذه المنظمة بالهاتف، بعد أن تحولت هذه العاصمة المهمة في عالم المال والسياسة إلى مجرد تابع يُقاد ويُدار بالمكالمات و«المسجات»..!
السعودية أرادت أن تحول «أوبك» إلى أداة للابتزاز وتحقيق المكاسب التي تخدم مصالحها السياسية، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بمصالح الجميع، ولم تكن الدول المصدرة للنفط هي المنصة الوحيدة التي استغلتها السعودية، فقد سبقتها الجامعة العربية ومجلس التعاون ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وبلغ الابتزار أخطر مراحله بتحويل المشاعر المقدسة إلى وسيلة للضغط والاستفزاز، تماما كما حدث مع قطر عندما تم قطع العلاقات والأرحام والطرق والمنافذ والأجواء، في إجراء لا يمارسه سوى «المافيااا» كما ينطقها مفكرهم الهرِم تركي الحمد.
من هنا بالتحديد يجب قراءة القرار القطري والتمعن في حيثياته، فهو سوف يزيح عن كاهلنا حملا ثقيلا قبلناه ردحا من الزمن على أمل إصلاح كل هذه المنظمات عبر العمل الجاد من داخلها في سبيل رفعة شعوبنا، لكن الرياض لم تفسح مجالا، ولم تقبل إصلاحا. كان هاجسها تحويل هذه المنظمات إلى منصات دعائية لمصالحها، تجر من خلالها الأعضاء، مرة بالترغيب ومرة بالترهيب، للانغماس في سياساتها المضللة بعيدا عن مصالح الدول وشعوبها.
لم يعد من الجائز الاستمرار في المجاملات، ولا من المقبول الموافقة على قرارات هدفها خدمة مصلحة عضو واحد على حساب جميع الأعضاء الآخرين، كما أنه ليس من المنطقي على الإطلاق التواجد تحت مظلة واحدة مع دولة دأبت على قياس الآخرين بأحجام دولهم وتعداد سكانهم، وغير ذلك من أدوات القياس الأكثر تخلفا، بغرض فرض هيمنتها وإملاء شروطها وفرض إرادتها.
لم يكن الحجم في وقت من الأوقات مقياسا للرفاه والتقدم، ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين السعودية، وسنغافورة التي لا تتجاوز مساحتها «700» كيلو متر مربع، أي أصغر من مساحة مشروع «نيوم» بمئات المرات لوقفنا على حقائق مذهلة كونها رابع أهم مركز مالي في العالم، ومدينة عالمية تلعب دوراً مهماً ومؤثرا في الاقتصاد العالمي، مقابل دور سعودي من المؤسف أنه يقوم على ابتزاز الآخرين واستغلالهم بأكثر الطرق بشاعة ووحشية.
هذه هي السعودية وهذه هي سنغافورة، والفرق بين الدولتين، أن السعودية اختارت إنفاق ثرواتها لشراء الولاءات والذمم الفاسدة والأنظمة الخانعة، وسنغافورة تحولت إلى اقتصاد المعرفة وتمكين مواطنيها وتأمين أفضل ظروف التعليم والتدريب في العالم.
أعود للقرار التاريخي الذي يخدم مصلحة قطر كأكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، في حين أن إنتاجها من النفط ليس ضخما، وبالتالي فإن سوق النفط لن يتأثر بهذا القرار، الذي سيمكنها، في المقابل من التركيز على التوسع في إنتاج الغاز الطبيعي المسال الحالي من نحو 77 مليون طن إلى 110 ملايين طن خلال السنوات المقبلة، بالإضافة إلى تطوير وزيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال، حيث أعلنت عن استراتيجيتها لرفع طاقتها الإنتاجية من 4.8 مليون برميل مكافئ يوميا إلى 6.5 مليون برميل مكافئ يوميا خلال العقد القادم.
ومما أوضحه سعادة الوزير أن قطر للبترول ستقوم بالمشاريع الخاصة بزيادة الإنتاج دون الحاجة للاقتراض، نظرا لتوافر السيولة لديها اللازمة لإقامة مشاريع التوسعة، مبينا أنه بحلول منتصف العام المقبل ستعلن قطر للبترول أسماء الشركاء الأجانب لها في هذه التوسعة، مشيرا إلى أنه في مجال الاستثمارات أيضا، تدرس قطر الدخول في شراكات لإنتاج الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، وقد تصبح أحد مصدري الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة عبر مشروعها محطة جولدن باس للغاز الطبيعي المسال، كما أن من أحد الخيارات المطروحة حاليا هو دخول قطر للبترول في استثمارات تتعلق بالغاز الصخري.
كل ذلك يستدعي تبني استراتيجية جديدة، تعبر عن اتجاهات قطر خلال المرحلة المقبلة، ترتكز على النمو والتوسع داخل وخارج الدولة، والتواجد دوليا بشكل أكبر خاصة في مجال الاستكشاف والإنتاج في كثير من الدول مثل البرازيل والمكسيك والأرجنتين وقبرص والكونغو وجنوب افريقيا وسلطنة عمان وغيرها، حيث توقع سعادة المهندس سعد بن شريده الكعبي أن يتم الإعلان عن عدة مشاريع ومشاركات عملاقة أخرى قيد الدراسة حاليا خلال الأشهر القليلة القادمة.
مما قاله سعادة وزير الدولة لشؤون الطاقة، واستوقفني كما استوقف غيري بطبيعة الحال، أن السعر العادل لبرميل النفط يتراوح ما بين 70 و80 دولارا للبرميل، وهذا السعر دأبت قطر على محاولة تكريسه لقناعتها بأنه السعر العادل للمنتجين والمستهلكين معا.
هنا أود أن أتوقف قليلا أمام حقيقة أن المياه المعدنية الأوروبية وغير الأوروبية يباع الليتر الواحد منها بأكثر من دولارين، في حين أن البنزين، الأكثر كلفة من البترول الخام، يباع الليتر الواحد منه بـ2.09 دولار لليتر للمستهلك، كما هو الحال في هونغ كونغ، التي تتصدر القائمة باعتبار أنها تبيعه بالسعر الأعلى عالميا، وهذا يعني أن المُنتج قام ببيعه بأقل من ذلك.
لايمكن أن يكون النفط الخام، بتكاليف إنتاجه العالية وحجم الاستثمارات الضخمة التي تُنفق عليه، أقل سعرا من المياه أو المشروبات الغازية، هذا ليس عادلا ولا منصفا، كما أنه لا يمكن إخضاع هذه السلعة الاستراتيجية لأهواء السياسة والمكاسب الضيقة وبيع المواقف وابتزاز الدول، كما تفعل السعودية تحديدا، لذلك كله كان لابد من وقفة تعيد ترتيب الأولويات بالنسبة لقطر بحيث تجعلها في منأى عن «سوق النخاسين» وتجارته سيئة السمعة.
آخر نقطة..
لقد اختارت قطر ما يلبي مصالحها، ومصالح الأجيال اللاحقة، عبر تنويع استثماراتها في مجال الطاقة، والنأي بها عن المصالح الضيقة والمشبوهة، وهي في كل ذلك تعمل وفق معادلات السوق وسياسات العرض والطلب القائمة على العدالة والإنصاف للمُنتج والمستهلك معا، ورأت أنه حانت اللحظة المناسبة للتحرر الاقتصادي بعد نجاحها المشهود في الاستقلال السياسي وذلك بمغادرة هذه المنظمة بعد أن أصبحت أشبه
بـ «سوق سوداء» تتجاهل المعايير الحقيقية لتسعير النفط في سياقه الطبيعي وتقوم بالتلاعب بالقيمة السوقية له من خلال إقحامه في قضايا سياسية وجرائم إنسانية للتغطية عليها عبر إرضاء القوى الكبرى بالسعر.. لتبيع لهم
بـ «الرخص» كما باعت لشعوبها «الوهم»..!
copy short url   نسخ
04/12/2018
5108