+ A
A -
ربما تكون تلك الأسرة الصغيرة المغيبة والمنسية في غياهب وسراديب المعاناة والأهوال الواقع تحت وطأتها أهلنا في سوريا هي تجسيد مصغر لمعاناة الربيع العربي بأكمله في سوريا والتي أعتبر ثورتها أم ثورات الربيع العربي رغم عدم سبقها في الخروج إلى الشوارع والساحات للمطالبة بالحرية والعدل والمساواة، ويرجع هذا كون الثورة السورية جمعت دون غيرها من بلدان الربيع العربي بين طيات أحداثها وتطوراتها كل المراحل التي مرت بها باقي شعوبه.
فعلى أراضي سوريا دون غيرها كل القوى العالمية والإقليمية لها تواجدها وامتداداتها الواضحة للعيان على الأرض دون رتوش أو أقنعة، كل التوجهات السياسية والمدارس الفكرية لها أذرعها العسكرية وتتصارع في ما بينها على الأراضي السورية في حرب ضروس شعواء تتغير وتتبدل ملامح تحالفاتها وتفاهماتها بوتيرة تجعل من الحليم راجح العقل حيران، لكن يبقى القاسم الوحيد المشترك أن الشعب السوري هو الذي دفع وسيدفع الأثمان وحده، وهو الخاسر الأكبر مهما كانت النتائج والعواقب، وبغض النظر عن الطرف المنتصر، فما يحدث الآن هو صراع على تقسيم الغنائم وللشعب الثائر المهجر المغارم.
الصغيرة أمل ومن يشبهونها من ضحايا أنظمة القمع والاستبداد هم بمثابة جرس إنذار أن خصوم وأعداء الأمة العربية اختلفت ألسنتهم وقومياتهم وأعراقهم وثقافاتهم لكن اتفقوا في ما بينهم على جعل الأراضي العربية الميدان الأكبر لصراعاتهم وخلافاتهم بما فيها ومن فيها وأنهم لم يعودوا يكتفون بالحاضر، بل يستهدفون تجريف المنطقة من مقومات وعوامل المستقبل، وهل يمكن العبور للمستقبل ومجابهته دون العامل البشري وفي القلب منه أطفال اليوم الذين سيصبحون قادة الغد في مختلف الميادين.
من المؤلم أن نرى ما يحدث في عالمنا العربي الذي يجمع شعوبه من محيطها إلى خليجها من عوامل وصفات مشتركة ما لا يتوافر لأي منطقة أخرى في العالم بأكمله، ورغم كل هذا فما كان من الواجب أن يجمعه بات من أسباب تفرقته وشرذمته، لتصبح ثرواته ومقدراته وحتى شعوبه مشاعًا بين القوى العالمية، حين تتحول الثروة إلى نقمة والثورة إلى محنة، ومن المحزن أن ما حدث في الماضي من مؤامرات على أمتنا العربية استهدفت تمزيقها ودق أسافين الفرقة وبث الأحقاد في ما بينها يتم تكراره اليوم وبنفس الأساليب ومن قِبَل نفس الأطراف الدولية وكأن عجلة الزمن تعود بنا إلى الوراء لترينا بأم أعيننا مخططات سايكس- بيكو التي قرأناها على صفحات الكتب والتاريخ وحدثت في مطلع القرن الماضي، وهي تتكرر أمامنا من جديد في مطلع القرن الحالي، لكن بوتيرة أعنف وفاتورة أكبر وأهداف أبشع وسيناريوهات أكثر دموية وعنفًا، وللعجب في نفس المنطقة الجغرافية في أراضي الشام وما حولها، والتي كانت الميدان الأبرز والأوضح لتفاهمات ممثلي الاستعمارية حينها إنجلترا وفرنسا وأضيف إليهم اليوم المستعمرون الجدد، والمحزن والمؤلم في آن أن أولئك المستعمرون باتوا ليسوا بحاجة لإرسال جحافل جيوشهم كما في الماضي فقد تكفل أذنابهم في معسكر الثورات المضادة وديكتاتوريات المنطقة بالقيام بالمهمة والتطوع من تلقاء أنفسهم دون انتظار الأوامر الخارجية في كثير من الأحيان.
كانت رسالة «أمل» واضحة بحجم معاناتها وظروفها، بسيطة بقدر أحلامها، أقصد حقوقها، قصيرة بعدد سنين عمرها، مؤلمة بقدر ما تتعرض له على مدار أيامها، لكنها رسالة هامة أن أنقذوا المستقبل إذا كنتم قد فشلتم في الماضي وعجزتم في الحاضر، رسالة قد تكون خرجت تلقائية وعفوية وعن غير قصد منها لكنها شرحت وبكل بساطة أن سايكس وبيكو الجدد لا يريدون لمستقبلنا أن يتجاوز حدود وأحلام بائعة القهوة الصغيرة في تلك القرية النائية في ريف إدلب والتي أرجعها حلفاؤهم الجدد إلى العصور الوسطى ووقفوا سدًا منيعًا في وجه كل من خرج مطالبًا بالحرية والعدل والمساواة، فتحقيق تلك المطالب يعني خروج المستعمر وأذنابه إلى غير رجعة، وسيحدث هذا عاجلًا أو آجلًا، طريق الحرية طويل وشاق لا ريب في هذا ولكن الشعوب هي من تنتصر في النهاية ويقصر الطريق كلما زادت المؤامرات وكثرت التضحيات، المؤامرات تكشف أصحابها وما يخططون له والتضحيات تزيد من إصرار الأحرار لمواصلة السير للنهاية، هذا ما دونه التاريخ رغم أنف كل سايكس وأي بيكو !.
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
30/08/2019
1401