+ A
A -
بقلم: د.عادل بدر كاتب مصري
تبرز قدرة الشاعر الحداثي في صياغة الأشكال الجديدة، بعد أن يكون قد اكتشفها عبر استقراء التجربة الفردية لديه. ومضامينها الفكرية والحياتية مستخدماً في ذلك خبراته التكنيكية. والنظرية دونما افتعال أو ميكانيكية.
نموذج البنفسج والزبرجد
يقول حسن طلب:
(في عروبة البنفسج)
في زمان التبرجْ
والسكوت الذليلْ
يستطيعُ البنفسجْ
أن يكون البديلْ
يستطيع البنفسجُ أن يستهلَّ
ويصنعَ خبزَ الوفاقْ
يستطيعُ-إذا شاءَ-أن يستدلَّ
ويجمعَ كلَّ الملايين في غمضةٍ ومْضةٍ
فالبنفسجُ ضدَّ الشقاقْ
(ميتافيزيقا البنفسج)
أيها القارئ المنتمي
اقترب من دمي
ها هنا شجرُ الحكمةِ الفلسفيُّ الوريفْ
يتبرَّجُ للمُغْرَمِ
ويدلُّ ويأْبى
فسبحانَ من وهب الشاعرَ الثمراتِ
ودانى القطوفْ
حين أمسكَ في الظلِّ بالفيلسوفْ
نلاحظ في النص السابق أن الشاعر يلجأ إلى إشراك القارئ معه، فيما يسمى «التعاضد النصي» ودور القارئ في إكمال النص.
إنَّ الحكايةَ الشعرية، بما تحمله من أبعاد فنية وفكرية وشعبية تمتلكُ قدرة هائلة على الانتشار بين الناس، مهما حملت من تعقيدات وإشكاليات تتعلق بمفهوم الحداثة أو بغموض بعض جوانب النص، حيث يبقى العنصر القصصي هو الأساس في عملية الإدراك الشاملة لدى الناس
لقد امتاز الشعر الحداثي، في بعض شعره الحكائي -القصصي- بقدرته على تحريك عناصر الدراما، وفي توظيفه للحوار- المسرحي والسينمائي- بالصورة، واللغة التراثية، والوصف القصصي. وتعدد الضمائر التي يستحضرها داخل الحالة الشعرية.
نموذج الكولاج:
الكولاج هو فن القص واللصق في الأعمال الفنية، وله استخدامات عديدة في فن الإعلان وابتكار اللوحات ويجوز للفنان استخدام أدوات عديدة للوصول إلى مبتغاه في النهاية.
الكولاج تقنية فنية تعتمد أساساً على نظرية «القص واللصق» لكن في النص الشعري يعتد على إعادة رصد الجمل، وتدويرها لتكوين عنصر ما ؛ لخلق شكل معين، فالفنان الذي يعمل على الكولاج حتى وإن كان التكوين الذي ينفذه مخططاً له، وغالباً سيخرج بنتائج جديدة واحتمالات أخرى؛ وفقا لرؤية النص أو الشاعر.
يتميز البناء، في شعر الحداثة، بتعدّد الأصوات وتناقضها، وبتطور الصورة الفنية من بعضها وتواشجها فيما بينها، وبالتماسك البنيوي الذي يجعل من النص كلاً واحداً، يصعب اجتزاؤه إلى وحدات مستقلة؛ ويتميّز أيضاً بطرح المشاعر المصطرعة، وبالتنامي الانفعالي للحالة الشعرية المطروحة، وبتنوّع الجوانب التي يرصدها النص الشعري. وهذه السمات يمكن أن توجد جميعاً في نص واحد، كما يمكن أن يوجد معظمها في نص آخر. فقد تتعدد الأصوات في النص من دون تنوّع في الجوانب، وقد يتنامى الانفعال من دون أن تصطرع المشاعر. ولكن البناء الدرامي يتنافى عادة وأحادية الصوت، مثلما يتنافى والتفكّك أو المراوحة في انفعال ذي طبيعة واحدة ثابتة. ولا شك في أن النص النموذجي للبناء الدرامي هو ذلك النص الذي ينطوي على تلك السمات مجتمعة. وما أكثر النصوص النموذجية في ذلك. وبدهي أن البناء الدرامي ليس خاصاً بالقصائد الطويلة -وإن يكن أكثر وضوحاً فيها - بل إنه يشمل أيضاً بعض القصائد القصيرة، وحتى بعض المقطعات الشعرية التي تبدو، للوهلة الأولى، غنائية صرفاً، ولتبيان ذلك، نتوقف عند واحد من النصوص القصيرة جداً ومن الممكن أن نرى ذلك في ديوان«ذاكرة الوعل» لمحمد فريد أبوسعدة معتمدا على إعادة صياغة أساطير قديمة، وخلق أساطير حديثة، حيث قسم نصوصه إلى دفقات، كل دفقة تتشكل في هيئة طلسم سحري يتوازى مع الدفقة الأخرى.
والشاعر عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات التي لاتزال تحتفظ بحرارتها؛ لأنها ليست جزءا من هذا العالم، عاد؛ ليستعملها رموزا،...كما أنه راح من جهة أخرى، يخلق له أساطير جديدة.
يقول محمد فريد أبوسعدة:
- كان على الفراش، يتحسس بطنها المكوّرة
ويضحك وتدغدغ بطن رجليه وتضحك
امتلأت الغرفة بملائكة صغيرة، بأجنحة خضرٍ،
راحت تطوف حولهما وترشّهما بالماء، يجريان
والملائكة وراءهما، حتى يسقطان على العشب
يلهثان.
فتجد ما لا يجد رجلاً من الرصاص يقف على
حافّة الماء انحنى وقال: أنا خادم السبت
واسمي«ميمون»
قالت: أين ملاكك كسفيائيل
أشار فرأت قبّةً من نورٍ أسود ورأته أمام القبّةِ
عابساً يجلسُ على كرسيٍّ من ظلمةٍ ومعه ثلاثون
عوناً وعشرة ألوية سودٍ
قالت: حنانيك يا زُحلُ ورحماك يا ساكنَ
فلكهِ الآخذ بناصية خدّام يومه
السبتُ، الطينُ، الزاي، الباردُ اليابسُ
النحسُ المحضُ.
إنَّ النص الشعري الحداثي لا يعالج عادة، موضوعاً محدداً، وإنما يعالج تجربة روحية أو نفسية أو اجتماعية أو كلها معاً -وهو الأعمّ الأغلب - فالبناء النصي لا يعتمد على تقديم أسطورة أو رمز تراثي سابق، يستلهمه الشاعر ويضع حالة موازية لـه، ولكن النص يعتمد بناء قصة تتمحور حول إعادة بناء التراثي؛ لرصد مشاهد الحيرة والقلق وطلب المستحيل، وهي السمات التي يتميز بها الإنسان المعاصر وبذلك فإن الميل عند الشاعر قد دفع بالنص الشعري إلى أن يكون نص تجربة، لا نص موضوع. مما أدى به إلى تجاوز ثنائية الذات والموضوع، وتجاوز الشعور المحدّد، وإلغاء الأغراض الشعرية المعهودة..
والصراع موطن الأثر الحقيقي في النص الشعري الدرامي، وأعتقد أنَّ الصراع أعمّ أجزاءِ ذلك الشعر، إذ يوجب على الشاعر غياب ذاته من خلال إبراز قصة مقنعة له، والعمل على توضيح مساره بدقة، والتوطئة له، والتقاط بعض التفاصيل التي تمنحه القوة وتضفي عليه شيئا من التوتر كي يغدو قادرا على شد انتباه الملتقي وعليه يمكن القول إنه «ما دام ثمة صراع فلا بد من توافر أصوات غير صوت البطل؛ لأن الصراع يعني وجود قوى أخرى تقف موقف الضد تتجلى هذه القوى في المسرح بالشخصيات».
إن التحول الشعري الحداثي جعل الاستعانة بالرموز الأسطورية أكثر غنى، وتعددا من خلال إنجازه لمظاهر ذات أهمية في بناء القصيدة، ويتمثل ذلك في «إطلاق مخيلة الشاعر في خلق أسطورته ورموزه وأقنعته ؛ليقص من خلالها بما يعادل الحالة التي يريد التعبير عنها، لا بما يساويها مباشرة،أو يفسرها معنويا، وذلك يشمل إمكانية تعديل الأسطورة، وتكييفها بما يناسب السياق الجديد»
حين ننسب قصيدة إلى فن الحكاية أو إلى الفن القصصي فإننا لا نطمح إلى أن تكون تلك القصيدة قصة متكاملة، أو حكاية ناضجة، ذلك لأن الشاعر حتى لو امتلك كل مقومات القاص أو الروائي يظل شاعراً بالدرجة الأولى، ولكنه قد يستلهم بعض ملامح شعره من الفن القصصي قدر ما تسعفه تجربته الانفعالية، وأدواته الفنية، وقدرته في رسم الشخوص والأحداث.
copy short url   نسخ
18/04/2019
2799