+ A
A -
بقلم د. أسامة المريخي
رغم حداثة تكون الفضاءات الرقمية التي انتشرت بسرعة في المجتمعات العربية، بشكل أجبر كثيرا منها على التغير بالسوية نفسها، إلا أن التباين في الآراء حول أهمية دخول هذه الثقافة والحداثة لازال يمثل إشكالية بين المؤيدين والمعارضين، وبالنسبة لي فإن ثمة قناعة لدي بأن سعادة الأوطان وقوتها لا تكمن في انخراط مجتمعاتها نحو امتلاك ثقافة الانفتاح والرقمنة والويب فحسب، فامتلاك ذلك وبما يوفره من أسباب القوة والتفوق، إلا أنه يحمل معه في نفس الوقت شيئاً من أسباب الانقطاع بين جذور الماضي وآفاق المستقبل، إذ لكل وطن وشعب «هوية أصيلة» متلازمة له لا تتغير في حقيقتها ولا تتبدل في واقعها، وبرأيي أن من أهم المكونات التي ميزت المجتمع القطري - بالوقت الحالي- هو قدرته على التمسك بجذور فطرته ورفع راية التواصل مع ماضيه والموائمة بين القديم والحديث، فأي أمة إن تمسكت بالقديم عاشت خارج الواقع، وإن أخذت بالجديد فقط، خسرت ماضيها وضلت طريق حاضرها، لذا أعود إلى حيث بدأت، لأقول إن سعادة الأوطان، وإن كانت تبنى بالعلم والعمل، إلا أنها تظل رهينة ومنقوصة إن لم يعززها (الإيمان)، فكم من الشعوب والأمم ترجلت وخبت قوتها حين فقدت «جذور فطرتها» وأهملت صناعة سعادتها.
أقول ذلك وأنا أرى هذا الحرص من قبل الدولة في قطر على التشجيع الدائم لتبني مسابقات «حفظ القرآن الكريم والمشاركة فيها»، وربما أخص بالذكر هذا التكريم الذي لاقاه الفائزين والفائزات الخاتمين لحفظ كتاب الله في مسابقة الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني الشهر الماضي، إذ لفت نظري فيه تتويج الشقيقتان أمة الرحمن، وآمنة، عبدالرحيم طحان، إضافة إلى ثلاثة متسابقين آخرين هم: عبد العزيز الحمري، وعلي صوفي، ومريم المراغي (ضمن المراكز الخمسة الأولى)، ولا أكون مُبالغاً إن قلت إن هذه النماذج المشرفة لأي وطن لاشك تأخذ في عصرنا الحالي طابعا اسْتِثْنائِيا يعكس حرصاً راسخاً من الأهل على خدمة كتاب الله تعالى وتنشئة أبنائهم وتربيتهم على تعاليم الدين وعلى القرآن والوسطية الصحيحة، حرص تدعمه الدولة ومؤسساتها سواء وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أو تلك المؤسسات الخيرية أو الدعوية التي يرعاها المجتمع والأهل في قطر، والذين جبل أبناؤها وتربوا على القيم الإسلامية والاهتمام بحفظة القرآن الكريم، والعمل على رفع مكانتهم وعلو منزلتهم، ولعل القارئ يستغرب استعارتي لهذا الحوار الذي دار بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبين رؤساء وسائل إعلام أجنبية، حين أجاب عن سؤال بشأن الكتاب الذي ينصح أطفال أي بلد بقراءته، إذ قال وقتها «في الديانات أسس إنسانية، إذا اتبعناها واتبعنا قواعدها، فإن العالم سيكون أفضل»!
أخيراً: من المؤكد لدي ولدى كثيرين أيضاً أن كل من يزور قطر اليوم تكفيه نظرة واحدة ليستطيع أن يستوعب هذا التطور والحداثة الحاصلة والمستمرة على مستويات متنوعة، لكن وفي نفس الوقت حين ينظر بعمق لهذه الحداثة سيدرك أنها حداثة لم تنفصل عن الإرث الحضاري والثقافي النابع من جذور ثقافتها وخصوصيتها وتدينها، فهنيئاً للفائزين وأهليهم وعائلاتهم، ولا خوف على مجتمع أدرك أن صناعة سعادته وإن كانت مرتبطة بالعلم والعمل، إلا أنها تظل منقوصة، ما لم يعززها جيل يحمل بيده الأقلام ويحفظ في صدره القرآن.
copy short url   نسخ
16/12/2019
190